أَشخَاصٌ فِي ذَاكِرَتِي
أمُّ قاسمٍ والوردُ الجوريُّ
كانتْ أُمُّ قاسمٍ- أو كاسمٍ كما ينادونها حسبَ لهجتِهم بلفظ القاف جيمًا مصريَّةً- كانتْ جارةً لنا، وهي المرأةُ الثَّانيةُ الَّتي كانت أُمِّي -رحمها الله- تزورُها في الحارةِ بعدَ أمِّ عدنانَ الحورانيَّةِ.
وكانتْ أمِّي تعمدُ إلى زيارتِهما في أوقاتٍ متباعدةٍ جدًّا.
وكنتُ أحبُّ أمَّ كاسمٍ، فهي متوسّطةُ الطُّولِ، ممتلئةٌ قليلًا، ببشرةٍ حنطيَّةٍ، وشامةٍ كبيرةٍ على خدِّها الأيسرِ، ولها سِنَّةٌ ذهبيَّةٌ في فكِّها العُلوِيِّ، وكنتُ أتساءلُ دومًا:
ما لونُ شعرِها؟ وظلَّ هذا السُّؤالُ بلا إجابةٍ، لأنَّني لم ألمَحْها مرَّةً واحدةً بلا حِجابٍ حتَّى حينَ أذهبُ مع أمِّي لزيارتِها، إذ كانتْ تُبقي الحجابَ على رأسِها.
وكانَ الجميعُ في الحارةِ يُنادونها بأمِّ كاسمٍ، ولكنَّها لم تُرزقْ بأولادٍ، وكانَ زوجُها خلوقًا متديِّنًا، وورِعًا دائمَ الصَّلاةِ في المسجدِ.
لا أستطيعُ أنْ أذكرَ هذهِ الجارةَ دونَ أن تفوحَ في ذاكرتي رائحةُ الوردِ الجوريِّ!
فقدْ كانتْ جارتُنا هذهِ تزرعُ في أرضِ دارِها الكثيرَ من الورودِ، وأكثرُ ما تزرعهُ الوردُ الجوريُّ الَّذي كانَ ينمو كشُجيراتٍ تُعانقُ الجدارَ الفاصلَ بينَ منزِلَينا، وكنتُ أحيانًا أمدُّ قامتي الصَّغيرةَ لأحاولَ أنْ أرى عددَ الورودِ الجديدةِ في شُجيراتِ حديقتِها الصَّغيرةِ.
وكانت أمُّ كاسمٍ تبيعُ الوردة بليرةٍ لطلَّابِ المدارسِ، الَّذينَ يتجمَّعونَ صباحًا عندَ بابِ دارِها، ليشتروا لمعلِّماتِهم الورودَ.
وقدْ كانَ للجدارِ غيرِ العالي الَّذي يفصلُ بيتَينا فائدةٌ كُبرى، فقدْ أنقذَنا مرَّةً أنا، وأخوايَ، كانَ ذلكَ حينَ خرجَ أبي من المُستشفى بعدَ مكوثٍ فيها لمدَّةِ عامٍ، ونصفَ إثرَ إصابتِهِ في حربِ ال٨٢.
منَ المُحالِ أنْ أنسى ذلكَ اليومَ المفرحَ الموجعَ في آنٍ معًا؛ لقد ذهبتْ أُمِّي لزيارةِ أبي في المستشفى، وتركَتنا وحدَنا، وفي اليومِ ذاتِهِ قرَّرَ الأطِبَّاءُ تخريجَ أبي من المستشفى، ولمْ يكنْ وقتَها لدينا هاتفٌ أرضيٌّ، فعجَّلَ أبي في الخُروجِ كي يصلَ قبلَ خروجِ أُمِّي من المنزلِ، وذهابِها إلَيهِ، ولكنَّهُ وصلَ متأخِّرًا، فقد ذهبتْ أُمِّي، وطرقَ أبي البابَ، فهرعتُ مع شقيقيَّ، وقلتُ -حسبَ توصيةِ أمِّي-:
منِ الطَّارقُ؟
فرَدَّ أبي: افتحي بابا!
يا الله، أيُّ وجعٍ أصابَ قلبي!
أبي على مقربةٍ منِّي، ولا أجرؤُ على التَّقدُّمِ خطوةً واحدةً، فالخوفُ شلَّ أقدامَنا أنا وشقيقايَ بسببِ الخروفِ الَّذي اشتراهُ لنا أبي، وكانَ بحجمِ الأرنبِ، والآنَ بعدَ مرضِ أبي الطَّويلِ، قدْ أصبحَ كبشًا عدائيًّا، ولا سيَّما أنَّنا كنَّا قد عوَّدناهُ على النُّزهاتِ، وبعدَ مرضِ أبي، حُبِسَ مدَّةً طويلةً، فكنَّا كلَّما اقتربْنا، هجَمَ نحوَنا مُرعبًا إيَّانا بِقَرنَيهِ الكبيرَينِ، رغمَ أنَّهُ مربوطٌ بحبلٍ.
حينَ لم نفتحِ البابَ، عادَ أبي، وطرقَ البابَ مُستغربًا عدمَ لهفتِنا، وترحيبِنا، فبكينا ثلاثتُنا، وقلتُ لهُ:
الخروفُ يا بابا يهجمُ علينا!
وسمِعَنا أبو كاسمٍ جارُنا نبكي، فمدَّ رأسَهُ منْ فوقِ الجدارِ، وسألَنا ما بِنا، فأشرتُ إلى البابِ، و حكيتُ لهُ ما جرى، فنزلَ عنِ الجدارِ، وفتحَ البابَ لأبي، وكانَ لقاءً جميلًا ممزوجًا بدموعِ الفرحِ، والاشتياقِ.
مرَّتْ سنواتٌ عديدةٌ على تلكَ القصَّةِ، ومع ذلكَ دومًا أذكرُها بحنينٍ كبيرٍ.
أمُّ كاسمٍ وبيتُها الصَّغيرُ الهادئُ المرتَّبُ النَّظيفُ لا تفارقُ رائحتُهُ العطِرةُ ذاكرتي، ولا يفارقُ وجهُ تلكَ الجارةِ الَّتي كانتْ تُحبُّني زوايا قلبي، وكنتُ لا أنزعجُ من لقائها، لأنَّها لم تكنْ تُزعجني، وتُقبِّلني مثلَ جارتِنا أمَّ عدنانٍ.
لا أعلمُ شيئًا عن أمِّ كاسمٍ، ولا عن سِلفَتيها مها، ونورا اللتَينِ كانتا بجوارِ منزِلها، وكانتْ أمِّي كانتْ تكتفي بالسَّلامِ عليهِما دونَ زياراتٍ.
للهِ درُّ تلكَ الأيّامِ الجميلةِ كم يُنعِشُ الرُّوحَ الحنينُ إليها!