شبكة الحكمة للأخبار الثقافية شبكة الحكمة للأخبار الثقافية
random

آخر المواضيع

random
recent
جاري التحميل ...
recent

من حنايا الذاكرة المؤلمة ..... بقلم الإعلامية والباحثة التربوية الأديبة الدكتورة شفيعة عبد الكريم سلمان

من حنايا الذّاكرة المؤلمة
هذه صورة الشّهيد البطل سرمد أحمد حبيب وهو يمتطي درّاجته النّارية التي رافقته منذ بداية أحداث إدلب إلى أن اختاره الله شهيداً بتاريخ /3/2013/15، وهيئة الدّراجة كما تبدو في الصّورة ترتدي ثوباً عسكريّاً، وقد حمّلها الشهيد الغالي سرمد أحمد حبيب من الأمام علمين بحجم صغير ومن الخلف علماً متوسط الحجم ، وهي أعلام وطنه سوريا، وهذا واضح، ولكن مالا تعرفونه ، هو القصة التي حملتها هذه الأعلام متمثّلةً بالعلم الذي وضعه سرمد من الخلف بشكل مقصود، اعتقاداً منه بأن هذا العلم سيحمي له ظهره، وإذا حان أجله سيستشهد وعلم بلاده شاهد على طريقة استشهاده ، وهذا مافسّره لي عندما دار بيننا أحد الحوارات ، والتي سأسردها لكم كما جرت تماما ، وسردي لبعض فصول قصّة سرمد ليس من أجل أن أدعم شهرته ، بل هي درساً واقعيّا صادقاً لكلّ شابٍّ يحرصُ على حماية وطنه.
بدأت قصّة إبني سرمد منذُ الأسبوع الأوّل لبداية الحرب على بلدي سوريا، حيث فوجئت به يصطحبُ ابنته وزوجته ليضعهما أمانةً لديّ، بعد أن دعاه الواجب للقيام بدوره تجاه وطنه من خلال انضمامه لرفاقه الشرفاء من الفرقة العاشرة الذين كلّفوا بالذّهاب إلى إدلب ، بعد أن كانت خدمتهم في ريف دمشق ، وفي نفس اليوم كنتُ قد عدتُ من المشاركة بمسيرةٍ جماهيريةٍ تأييداً للحقّ والوطن ، مصطحبةً معي العلم الظّاهر على درّاجة سرمد من الخلف، و قد علّقته فوق سريري، وعند مجيء إبني سرمد وزوجته وإخباره لي : أنّه سيلبي نداء وطنه ويذهب إلى إدلب ، انتابتني مشاعر الحزن والخوف عليه ، ولكنّي كعادتي حاولت جاهدةً إخفاء تلك المشاعر، وقلتُ له يابنيّ نحن ربّيناك للحظّات التي يحتاجُك فيها وطنُك ، والقرار له أوّلاً وأخيراً، وأنا التي تعرفُ مدى روعتك وشهامتك وشجاعتك النّوعيّة، تلك الصّفات التي استُخْلِصَت ممالديك من خصال ومواهب نادراً مايمتلكها شابٌ في هذا العصر، ويقوم بإخفائها، ولايرضى أن تتحدّث عنها أمّه أو تفخر به من خلالها, كما أنّني أعلم مدى ثقافتك العميقة في الدّفاع عن أرضك  وعرضك ، ورغم هذا كلّه ، أرى نفسي مضطرّة لتذكيرك ببعض الأمور ، أوّلها قدّم الخير لمن يليك ، وأكثِر الحذر ممّايليك، فقاطعني ممازحاً ماما، لقد سمعتُ بحديث يوصي بأن نأكل ممّايلينا، ولم أسمعْ قط بحديث يوصي بأن نحذر ممّا يلينا، وبحكم العلاقة المميّزة التي كانت بيننا كنّا نتعامل ليس كأم وابنها فقط، بل يضاف إليها جسراً متيناً من الصّداقه، كان سرمد مطّلعاًعلى طريقة تفكيري ، يدرك مقاصدي بمجرّد التّلميح، ومع هذا أكّدت له أنّ الحديث لايقتصرعلى الأكل فقط ، وإنّما يستطيع كلّ عاقل أن يستنبط منه حكماً ومواعظ عدّة، ثم نسيتُ نفسي ، وأخذت أحّذّره من أن يدير ظهره لعدوّه، وهنا قاطعني، معاتبا ومستأنفاً الحديث بقوله ، أعدك أيّتها الأم الحبيبة والصّديقة والمرشدة الحكيمة أنّني لن أتعرّض بالأذى لمن لايؤذيني، وأن أكون عند حسن ظنّ الله وظنّ وطني وظنّك أنت وأبي وإخوتي وكل من توسّم بي خيراً  ، ثم استأنف القول: كلّ ماأرجوه منك أن تُترجمي لي التّربية التي أنشأتينا عليها بشكلٍ عملي من خلال قوّتكِ وصبركِ على مختلف عواقب الأمور، وأن تربي وتعلّمي الرّنيمتين (رنيم أختي ورنيم ابنتي) القوّة والصبرمثلك، ثم دخل إلى غرفتي ليودّع ابنته النّائمه في سريري, وخرج من الغرفة وهو يحمل العلم الذي تحدّثت لكم عنه في بداية حديثي ، فحاولتُ ممازحته ، كي أُخفي عنه ضعفي ، وهو عازمٌ على وداعي، فقلت له آهٍ  يابني كم أنت بخيل؟ ألا تستطيعُ شراءَ علماً، بدلاً من أن تأخذ علمي هذا، وهنا ضمّ العلمَ إلى صدره ، قائلاً : لا ياأمي أنت تعلمين أنّني لستُ بخيلاً، ولكن طالما حملتِ هذا العلم بيدك سآخذه ذكرى منك وأحافظ عليه، وسيكون هوصلة الوصل بيني وبينك كأمّ صغرى ، وبيني وبينك وبين بلدي سوريا أمّنا الكبرى ، وأنا أعرف مدى ثقتك بي، ثمّ ضمّني إلى صدره وهو يودّعني، وذهب بسرعة البرق دون أن يلتفت خلفه ، وقلبي يحاول أن يخرجّ من صدري ليلحقَ به، أمّا زوجته  فكانت تراقب ذلك وهي تبكي.
كانت تلك الليلة من أصعب الليالي التي عشتها في عمري .
التحق سرمد بقطعته وتسلّم مهمّته وبدأ العمل ، ولكن رغم صعوبة المهمّة وحساسيتها ، كان يشعرني دوما ًأنّه بخير، وأنّ الأمورتسير على مايرام ، ويسعى بكل مالديه لتعميق الثّقة في نفسي أنّنا منتصرون، ويرسلُ لي رسائل في فترات متقاربة، يضمّنها عبارات يمازحني من خلالها اعتقاداً منه أنّه ينسيني خوفي عليه، المهم مضت عدّة أشهر وسرمد لم يحصل على إجازة، وبعدها اتّصل بي يرجوني أن أرسل له زوجته وابنته إلى بيت والده  في محافظة حماه، كون الذهاب إلى بيت والده أسهل له من المجيء إلى بيتي في دمشق، وحقّقتُ له رغبته وأرسلتهما ، وماأن أنقضت بضعةُ أيّام حتّى أخبرني أنّه حصل على إجازة لمدّة يوم واحد ، وسيذهب لرؤية زوجته وابنته وباقي الأسرة، وفي مساء ذلك اليوم هاتفني شقيقه فرقد وشقيقته رنيم ليخبراني أنّ سرمد جاء إليهما عبر دراجته الناريّة التي كان قد ألبسها لباساً عسكريّاً، وحمّلها علم وطنه سوريا حيث وضع العلم الذي أخذه منّي على درّاجته من الخلف، إضافة إلى علمين ذات حجم صغيرمن الأمام ، وتعرّض خلال مجيئه لبيت والده إلى هجوم مسلّح ألهمه الله أن يوهمهم أنّ لديه قنبلة ، إذ مدّ يده إلى جيبه وأخرج قدّاحةً ورماها في وجههم فهربوا، ورفع سرعة درّاجته ونجا منهم، وقام كل من فرقد ورنيم بالتّوسّل لي لإقناعه بأن ينزع عن درّاجته الأعلام واللّباس العسكري ، فوعدتهما أنني سأعمل مابوسعي من أجل ذلك، وبنفس الوقت كان  يوم إجازته قد انتهى ، توجّه سرمدإلى مكان عمله ، ولم يستطع والده إقناعه بتغيير هيئة درّاجته ، اتّصلت به فجاوبني قائلاً  ماما:لاأستطيع الإطالة في الحديث ، وفوروصولي إلى مكان عملي سأتّصل بك
انتظرته إلى إن اتّصل بي ، فعاتبته مذكّرةً إيّاه أنّه مؤمن وأنّ المؤمن لايرمي نفسه إلى التّهلكة ، فقاطعني ووعدني أنه سيعاود الاتّصال بي بعد قليل، وبعد  حوالي ساعة أو أكثر جاء تني رسالةٌ مصوّرةٌ فيها صورته وهوعلى درّاجته يقرأ لي قصيدةً ألّفها ردّاً على معاتبتي له ( القصيدة من تأليفه وبصوته)  وقد قام أحد أصدقائه بتصويره  يقول فيها:
أسيرُ بنعشي على غيرِعادة **لأنّي بصدقٍ نويتُ الشّهادة
وأرفعُ علمي أمامي وخلفي ** فهذا الجهادُ وهذي العبادة
بروحي ودمّي سأفدي بلادي ** لأنّي عشقتُها قبلَ الولادة
فلن تمنعوني ولن تضعفوني ** فعزمي حديدٌ وكلّي إرادة
تأتي القذائفُ يأتي الرّصاص** فأكشف صدري بكلّ جلادة
ويضحكُ منّي الموتُ ويدنو** فيمنعُ أجلي عنّي الشّهادة
فلن أستكينَ ولالن ألينَ ** حتّى أحوذَ النّصر قلادة
فلئن متُّ على فراشي** فإنّي الشّهيدُ وإنّي الشّهادة
وقرأتُ القصيدة مرّاتٍ ومرّات ، وفي كلّ مرّة يزداد اعتزازي وفخري بولدي وبالتّوازي يزدادُ حزني، إذ كيف تفرضُ علينا هكذا حروب ، وربّما نخسرُ فيها شباباً لايعوّضهم مال الأرض، ثمّ تتغلّب وطنيّتي على أمومتي البيولوجيّة ، وأعود إلى وعيي فأكتب لإبني رسالة أعده فيها أنّني سأكون كما يحبّ أن يراني، وسأترك له الحريّة في اتّخاذ أيّ قرارٍ يتعلّق به، موضحةً له أنّ قصيدته تعدّ سفراً يستحقُّ أن يدرّس على أعلى المستويات، وأنّني أفخرُ به مدى الحياة وحتّى بعد الممات.
وختمت الرّسالة بعبارة (أمّك اللبؤة التي حملتك في عرين جسدها لتراك على ماأنت عليه الآن).
وبذلك انتهى الفصل الأوّل من قصّة البطل المقدام الذي يعجزُعن وصفه أرقى أنواع الكلام.
وإليكم هذا الملحق:
بعد استشهاد إبني الغالي الشهيد سرمد أحمد حبيب، استعدت مشهد قدومه إليّ يوم غادرني وذهب للدّفاع عن أرضه وعرضه.
وكتبت القصيدة الآتية:
الغضنفر
دخل الغضنفرُ مشرئبّاً شامخاً
يرنو إليّ ووجههُ متعندمِ
يمشي الهوينا قاصداً حضني أنا
ويقول ماما شاردة ؟ أم تحلمي؟
هذي حفيدتك رنيماً قدأتت
تشتاق ُعذبَ حنانك فلتكرمي
فأخذت أقرأ مايجول بفكره
وما كان قدأخفاه من أمر مؤلم
ورحت أغضّ الطّرف عمّا قرأته
وأصطنع البسمات أُخفي تحطّمي
وكما قرأته كان يقرؤني هو
ويقول ماما  أفصحي لاتكتمي
فأجبته قلبي تأهّب للفرار
أنت الشّرايين التي تحمل دمي
فأجابني أمّاه أنت لبوة
قد حيّرت أعتى الأسود الضّياغم
كم كنت تروي عن البطولة قصّةً
تبغين منها أن أكون أسامةً
واليوم هاأنذا فهيّا ابتسمي
فاحتارَ طرفي فاحصاً قسماتُه
وهوالذي بيديه يحمل عَلَمِي
أتريدُني أن أبتسم
ياوردي يارئبالي بل ياهيثمي؟
وسألتُهُ: أين المسيرَ أسرمدي؟
فأجابَ أنت بكلّ أمري تعلم
أمّ الضّياغمِ حدسك ماخاب يوم
تدرين ماأمري بدون تكلّم
لا لن أريك تهدّجي وتلعثمي
بلّغتُ في  أمر المهمّة حالا
لوتُفتدي لفديتُك أمّي أنا
هذي دموعُك تنسكب تهطالا
فتواري منّي عينَك كي لاأرى
تلك الدّموع  ولؤلؤاً  يتلالا
يافيض دمعك يشبه الحبّ الذي
في قلبك الدّفاق كالشلالا
رنّومتيّ أمانةً  وشفاعتي
أنت لهنّ الحاضنه والبلسم
والآن ياأمّي- أنا- ادعي لنا
ولتقبلي بكلّ ما الله  قاسم.

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

شبكة الحكمة للأخبار الثقافية

2016