أهزوجة الموت .
نصٌ قصصي .
الكاتب : أنور ساطع أصفري .
******************************************************************************
تبدأ النوبة ، أرضٌ قفرٌ ، بوارٌ ، قحطٌ ، جذعٌ حادٌ يتحركُ ، يندفع ، يختنق ، يتهالكُ فيرتجف . في الجنوبِ تجمّعوا ، ومن هناك شنّوا هجمات الرعبِ على النساء ، والأطفال واليتامى ، إغتصبوا الترابَ والرؤى والذكريات . لأول مرةٍ حينَ أُغمضُ عينيّ ، وأفكرُ بصوتٍ عالٍ مرتفع ، وأنداحُ في دوّامةِ التفكير ، يُخامرني شعورٌ بالنفي ، بالإقتلاعِ ، فقأوا عينيّ ، قطعوا شفتي ، جدعوا أنفي ، صلموا أذني . تناهى لمسمعي صوتُ والدتي نديّاً دافئاً مشعّاً ، كأنه آتٍ من مكانٍ قصيّ ناء ، " يابني إحفظ نفسكَ ، إقرأ القرآن ، لا تنسى آيةَ الكرسي قبلَ النوم وعندَ الملمات ، لا تقطع أخبارك عنّا ، نحن قلقون عليك " . يا أمّاه ، الطفلُ الذي كان يضحكُ من القلب ، يغدو الآن في غمارِ يمٍ متلاطم التيارات ، مُحتدمَ الموج ، يُهرّولُ في خضمِ ظلماتٍ مطبقةٍ بلا عيون ، يتآكل ، يتحصّول ، يتغلغل في ظلمةٍ دخيلةٍ مرعبة ، يترنّحُ ، يئنُّ ، وضعوا في معصميهِ أغلالهم الصغيرة ، ودقّوا في يديهِ مساميرهم التي يريدون ، ثمّةَ تركوه مشوّهاً ، كسيراً ، مشبوحاً على خشبةٍ كبيرةٍ ، أتعرفين لماذا يا أمي ؟ . " لأنّه يعشقُ حتّى النخاع رائحة التراب " . حملتُ الزهور للبوّابةِ الشرقية ، وحدّثتها بدايةَ ما حدّثتها عن الحب ، عن الحدود ، عن الوطن المترامي الأطراف ، " التي نخشى أن تتحوّل إلى أطرافٍ إصطناعية " ، وعن الفقرِ والإرتحال المر ، حدّثتها عنكِ ياأماه ، عن صوتكِ الندي وأنتِ ترتلينَ الآيات ، بل كيف كان يتهدج صوتكِ وأنتِ تُنشدين أغاني الفرحِ ودموعكِ لا تنقطع . حدّثتها عن الأطفال ، كيفَ يولدون ، وكيف ينمون ، وكيف تشبّ خطاهم ويستطيلون في غمارِ هذه الحياة " من لم يرَ شقاءَ طفلٍ ، لم يرَ شيئاً قط " . كانت كلماتي حارة ، حيّة ومتدفقة ، ، ثّمّ راحت تتخافتُ وتخبو وتنوس ، حتّى إنطفأت . وأطبق الظلامُ المُحتضنُ بالخوفِ وإدلهم . وصُفّت الناس على جانبي الطريق لأنهم تمرّدوا وقالوا لا . أتذكرين يا أُمي ماذا قالت لي جدتي ذاتَ يوم ؟ .لقد قالت لي " من أجلِ أن تقولَ كلمة نعم عليكَ أن تُخفضَ رأسكَ إشارة الرضوخ ، بينما من أجلِ أن تقولَ كلمة لا، عليكَ أن ترفعهُ وبكلِ ثقةٍ وشموخ ، فإياكَ أن تخفضَ رأسكَ يا بُني " . كثيرون هم اللذين خطفوا اللقمةَ من أفواهِ الجياع ، وسرقوا الدواء والغذاء والرُضّعِ من أحضانِ الأمهات . لكنهم صمدوا يا أمي ، وكانَ الصمودُ عندهم كأهزوجةٍ شعبيةٍ تسافر في واحات الصحارى العربية مُحطّمةً صمت المترفين . في لهيبِ الظهيرةِ تشوّهت الأشكال ، غاصت الظلال ، تلاشت المرئيات ، أحتدمُ مع شواظ الشمس الحارق ، أحتمي بكلتا يدي ، أُحاولُ الفرار ، أسبحُ في عرقٍ غزيرٍ لزجٍ أسود ، أختلطُ بالغبار والدهنِ والأوساخ والدخان ، أحسُّ باللزوجة المختلطة تنفُذُ في الجسدِ والرأسِ والقلب ، أنتفضُ كمن لسعتهُ أفعى ، أُعاني من مشاعرَ متباينة ، قدرٌ هائلٌ من التفاهةِ والقرفِ يسري في أعماقِ نفسي ، والكلُّ صامتون ، وددتُ لو أتطهّرُ من زيفِ الأيام ، لكن مياه الأنهارِ تلوّثت بالحقدِ الذي صُبَّ على الورودِ والأفواهِ والمياهِ والأرحام . المتاريسُ التي نصبتها عَبرَ السنين تحطّمت دفعةً واحدة ، تهاوت، تبددت كالسراب ، وأصبحتُ أستمدُّ منها القدرةَ على التحدي حتّى الموت . سأرمي جذوري ومتاريسي يا أُمّاه . واللغةُ الغريبةالرديئة التي لم يألفها الأوائل ، والتي بات يُتقنها أشباهُ الرجالِ بشكلٍ يُثيرُ الكراهية والنفور ، ستنحدر ، وتغورُ في الهُوّةِ ، ستئدها إرادةُ الأجنّة . حينها ستتفتحُ أزهار الحبِ النابتِ في الأعماق ، وسأُمارسُ عمليةَ إقتلاعٍ رهيبةٍ أجتثُّ بها جذوعَ الحقدِ والكراهية ، لتنمو بدلاً منها نباتاتُ الشيحِ والبابونجِ والزعتر البري . سأضع رأسي على صدرِ الرمالِ ، كما لو كان صدركُ يا أمي ، وأستعرضُ ماضي المدنَ الضائعةَ في لُبابُ المداخن . أنتحبُ بحرقةٍ وألم ، أتذكّرُ أحاديثي التي إنطفأت ، وجذوةَ الحماسِ التي خبت ، اليوم أتذكّرُ كلماتكِ يا أمي ، لذا أنهضُ وأُسارعُ لأقرأ آيةَ الكرسي ، وأترنّمُ بشيءٍ من البرودةِ والهدوء ، وآوي إلى فراشي ، أحلمُ بصباحٍ مشرقٍ جديد .