في بلادنا لم يفسد الود فقط بل ضاعت القضية!...
أعزائي يعد الاختلاف في الرأي بين الناس ظاهرة طبيعية فهو يرجع إلى اختلاف العقول وطرائق التفكير.
لكن الأمر غير الطبيعي أن يكون هذا الاختلاف بوابة للخصومات والخلافات ومفتاحاً للعداوات، كما هو ملاحظ هذه الأيام، بسبب آراء جعلتنا ننقسم للمرة العاشرة بعد المليار.
غالباً ولكي تكون فكرتي عن أي موضوغ مبنية على أدلة، أعمد إلى أن استخلصها من خلال تجارب عملية، فحدث وأن ناقشت شخصاً وأنا أعلم مسبقاً أنه ينتمي إلى عالم النرجسية، فهو بنظر نفسه العارف العلاّمة الذي بلغ علمه أقصى مدى إلى أن وصل حد الكمال، وكان النقاش من باب الاستفسار والاستيضاح، والمفارقة ليست بأنه لم يتقبل الرأي فقط بل أنه خاف من أن يشاهد متابعيه ما حصل من نقاش! في الوقت الذي فيه الأشخاص بحاجة إلى سماع آراء متعددة والاستزادة من مصادر ووجهات نظر متنوعة من أجل تكوين صورة أكثر اكتمالاً للفكرة، وهذا الشيء صحي يفيده لا يضره، ويظهر ثقافته وعلمه لو كان فعلاً إنسان مثقف وباحث حقيقي.
لكنه في النهاية تمسك بالموروث من نشأته، فهو ابن بيئة شبه معدوم فيها ثقافة الاختلاف ولم تساعده على عقليته أي شهادة حصل عليها، لأنه هو لا يريد الانفتاح وهذا الشيء غير مستهجن فرغم أننا لسنا من نفس البلد العربي لكننا وكما يقال في "الهمّ كلنا عرب” ويوجد أمثاله الكثير الكثير عندنا للأسف، ناهيّك أن الاختلاف في العلم لا يبنى على الرأي بل يكون مبني على أدلة ونظريات ومراجع علمية، وعادة يتجهز المحاور الحضاري لأي نقاش أو لقاء يقبل عليه بالمستندات والوثائق والدراسات ليطرح رأيه ويرد على الآخرين بشكل علمي وموضوعي، بينما البعض مفهوم النقاش لديه هو (مصارعة جسمانية)، الغلبة فيه لمن صوته أعلى وأكثر افتراءً وكذباً وإثارة الغبار وخلط الاوراق أو تحويل النقاش إلى التهجم الشخصي على من يخالفه الرأي، وهي جميعها دلالة على الضعف وعدم الثقة بالنفس، وعدم امتلاك خصلة حسن الاستماع، لانه لا يستمع، وبالتالي لن يتقبل وجهة النظر المخالفة له، ومن طبعه المزعج أنه يرسل ولا يستقبل، فحبيس العقل المتحجر يتعمد ذلك، ويصب عليك جام غضبه لأنك ببساطة وحسب ظنه خالفته في الرأي!...
وتردّد الأغلبية في العالم العربي أن “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية” وهي مقولة للأديب المصري الراحل أحمد لطفي السيد، فيها تأكيد على أن الاختلاف في الآراء ووجهات النظر هي ظاهرة صحية للمجتمع المتحضر، وتعدّد الآراء حول مسألة ما إنما هو تعدد للحلول والعلاج، لكن ما يحدث هو العكس تماماً، فيغضب الناس من آراء وحجج وبراهين وحتى معتقدات الآخرين عندما لا تتوافق مع معتقداتهم، وفي الكثير من الأحيان يعتبر رفض شخص ما لرأي الآخر بمثابة رفض له وذلك بسبب الارتباط العاطفي بالآراء، مما يشعل الغضب ويزيد التوتر ليندلع بعدها العنف، ولا تفرّق الأغلبية في العالم العربي بين قبول الآراء واحترامها.
تُعد القصة الهندية القديمة حول المكفوفين والفيل مثالًا غنيًّا على ضرورة التنوع وقوته، وفي هذه القصة، يحيط مجموعة من الرجال المكفوفين بفيل للتعرّف على شكله، وبعد لمسه، يقارنون تجاربهم ويبدأون في النقاش مع بعضهم البعض “الفيل على شكل شجرة” يقول الشخص الذي لمس ساقه: “لا، لا، الفيل مثل الجدار”، يقول الشخص الذي لمس جانبه: “مستحيل، الفيل مثل الأفعى”، يقول الشخص الذي لمس خرطومة .. عندها تحدّث رجل مبصر ووصف الفيل بأكمله، حصل المكفوفون على لمحة عن “الصورة الكاملة”.
وتوضح القصة أن التجارب الشخصية يمكن أن تكون حقيقية، لكنها محدودة.
وللحقيقة “يعتبر القبول هو القدرة على رؤية أن للآخرين الحق في أن يكونوا أشخاصاً متفرّدين، هذا يعني أن لديهم الحق في مشاعرهم وأفكارهم وآرائهم، فعندما تقبل الناس كما هم، فإنك تتخلى عن رغبتك في تغييرهم، تسمح لهم بالشعور بالطريقة التي يريدون أن يشعروا بها، وتتركهم مختلفين ويفكرون بشكل مختلف عنك، كل شخص مختلف بطريقة أو بأخرى بمجرد أن تفهم هذه الحقيقة، يمكنك التوقف عن محاولة تغييرهم إلى الأشخاص الذين تريدهم أن يكونوا، والبدء في قبولهم كما هم”
لذلك لا بد من الإشارة إلى أهمية استدعاء أشكال ونماذج جديدة في التدريب وبناء القدرات في مجال قيم التسامح والحوار تتخطى الجوانب المعرفية والتنظير، والتركيز على الممارسة وأن تكون التدخلات شمولية وتكاملية وتستخدم فيها طرق مبتكرة تقليدية وغير تقليدية، فإذا كانت ممارسة التسامح والحوار يدرسها الطفل والشاب في المدرسة والجامعة فلابد أن يراها ويسمعها ويعيشها في المدرسة ذاتها وفي المنزل والشارع ودور العبادة وفي الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا...