على عجل جهزت سهام إبريق الشاي ووضعت الموالح في صحنين واحد لها وآخر لابنها وابنتها وحضّرت النرجيلة والجمر ..و أخرست ابنها ذو السبع سنوات وابنتها ذات الخمسة اعوام ..فقد حان موعد برنامجها الذي تهيئ له جوا خاصا .
جهزت لبرنامجها المفضل ذا فويس لوازم القعدة ..وسحبت نار نرجيلتها ..وكلما غنى أحد المتسابقين تعطي حكمها عليه قبل اللجنة ..وإذا أعجبها صوته ورفضته لجنة التحكيم تقول : فعلا ما عاد في حس وذوق بالطرب .
كانت تمنع اولادها من الحركة حتى صاروا يقلدونها فينتظرون البرنامج ويسألون والدتهم إن كانت تجد صوت المتسابق جميل ليصفقوا له .
وفي اليوم التالي تخبر جاراتها أنها كانت تسبق اللجنة باختيار المتسابقين .
سهام في الرابعة والعشرين من العمر ولا يتذكر لسانها أنه ارتاح إلا أثناء نومها ... النوم الثقيل منه ..أما النوم في مراحله الأولية فكانت تهذي ولسانها يناجي ..اعتبرت سهام أن الكلام رياضة تحتاجها حنجرتها للأيام القادمة حين ستطلق حنجرتها للملأ .. الملأ الذي سيقول بعد كل نغمة منها : اللللله .لذلك كانت تعمل على وضعين إما الكلام أو الغناء ..أما وضع الصامت فملغي من قاموس حنجرتها .
كانت موقنة أن لها صوتاً جميلا وتؤدي بحرفية عالية وأن لديها أذناً موسيقة حساسة ..لم يقل لها احد يوما : صوتك جميل ..لكنها أمنت بصوتها .
حين تبدأ عملها يصدح صوتها وتمنع الأولاد من مقاطعتها .. حتى أن ابنتها دخلت مرة للحمام ونادت امها كي تشطفها ..فلم تتوقف عن الغناء وهي تمسح مؤخرة ابنتها وفمها قرب أذنها .
تململت البنت وقالت : ماما صوتك بنص داني ..معليش توقفي شوي .
لم تصغ لها كانت مأخوذة بإكمال حلمها أنها تقف على خشبة المسرح في ظهورها الأول في برنامج ذا فويس ..وأنها واثقة من نفسها يصحبها حياء جميل .
وعندما طلبت منها اللجنة الغناء ..حلّقتْ حتى وقف لها الجمهور واللجنة ، وصرخت المطربة أحلام الللللله اللله ..وقال راغب علامة : عظمة على عظمة على عظمة يا سهام ...برافو برافو .
تعيش سهام مع حلم نجوميتها صبحا ومساء ..يقظة ونوم ..عملا واسترخاء ..حتى في جلساتها النسائية تشرد في الحلم ...ثم تبدأ بالدندنة مما يفاجئ النسوة الأخريات .
كانت سهام رشيقة القد تهتم بجسدها فهي تتأمل بالنجومية ولا بد أن تلتزم مقاييس الجمال ..مؤخرة دائرية بارزة ..صدر يعادل المؤخرة خصر نحيف وساقان بلا فخذ ..كانت تتريض ساعتين صباحاً وساعة مساء فتذهب للنادي بكامل أناقتها .
كان وجهها منفوخ بخدين عاليين صلبين كما لو وضعت نصف تفاحة مقلوبة بهما والأنف صغرته حتى كادت فتحتاه تغلق ..وأما كتلة الفم فهى الأشد لفتا للانتباه أسنان بيضاء حين تبتسم تعتقد أنها من فصيلة القروش ..اسنان بيضاء قالوا عنها ابتسامة هوليوودية .
وأما الشفتين فمن الصعب على قارئ شفاه معرفة الحروف الخارجة من كلامها لأن الشفتين تتموجان مع ميل لليمين وحركة الشفاه متأخرة قليلا عن صوتها ..كما تتخذان أشكالا عدة في المشاعر ...فحين تبتسم يصير سفينة ..وحين تغضب يتحول لمظلة .. وعند الصمت وهو نادر تحتار في مشاعرها .
كان زوجها على سفر دائم ..وما أن يعود للبيت ويتمدد مسترخياً حتى تبدأ غناءها ..فيرتدي ثيابه ويذهب لبيت أهله بحجة زيارتهم ...يتحمل يومين ثم يغادر البيت ..وحين يصعد في القطار يقول له : با محلا صوتك ... وحين تجرأ وطلب منها أن تسكت مرة : غضبت وحزنت وتألمت فارتعب من منظر شفتيها اللتين راحتا تتخذان أشكالا ضائعة بين سفينة ومظلة وبطة ويشعر أن الكلام يتأخر عن حركة الشفاه ..فلم يعيد طلبه ..خاصة بعد أن عبرت قائلة : محرومة من كلشي ..أنت مسافر ع طول .. والأولاد بلعبهم....صوتي حلو وبحب أغني ..كمان تحرموني من شي بحبه ؟!
سهام تزوجت بعمر السادسة عشر وبقيت عالقة في ذاك العمر بأحلامها وتصرفانها حتى بانسياقها ل الجمهور عايز كده .
رغم فرح سهام بغنائها لكنها كلما أطالت بالغناء وخاصة أغنية تحتاج نفساً عميقاً لا يمكن سحبه من منخاريها شبه المغلقين ، فتشعر بألم رأس يزداد تباعاً مع شدة الإحساس والآاااااه .
تحب سهام أن تغني للأولاد قبل النوم وتلك نصيحة أخذت بها من إحدى المغنيات التي قالت أنها اختبرت جمال صوتها حين كان أولادها ينامون بسرور على تلك الهبة الصوتية التي منحها الله لها .
كان الولد يرتاح بالنوم ورأسه تلفها المخدة ، والبنت تنام وهي تغمر رأسها كالنعامة في وسادتها .وأما سهام فكانت تتمدد بجانبهما في السرير وتغني لهما *لقيت الطبطبة * و هي تحلم أنها على خشبة المسرح والجمهور مأخوذ بغنائها يصفق ويصفر ويصرخ إعجاباً ويرمي الورود ...صوتها يملأ البيت... الحلم ينمو والإحساس يكبر والصوت يعلو وألم الرأس يزداد بشدة ، وكما العادة ينتابها إحساس بالضجة كبير ..قالت في نفسها وهي تغني : ضوضاء عالية ..شيء يزن في رأسي وأكملت الغناء :
" لو أنا هوصفك أوصف ايه
عقد فل أبيض وفيه
قلب بيدلدق حنان
ملكي بقى وأنا أدرى بيه ."
كان الولدان يؤرجحان جسدهما ويهدهدانه علّهما يناما ...وسهام تستمر بالغناء ..والضوضاء تزيد ...سعلت سهام وسكتت جزءا من الثواني لتأخذ نفساً وتعاود الطبطبة ... فعمّ المكان هدوءاً مريح... هدوءٌ أعاد للهواء أكسجينه وللمكان رحابته وارتفع سقف الغرفة التي كان يبدو جاثما على صدر الأولاد وصدرها ...توقف الولدان عن النوسان ...وأزاح الصبي المخدة عن رأسها ..ورفعت الفتاة رأسها المدفون كنعامة في الوسادة وارتاح جسدها على السرير ...أما سهام فقد شعرت باسترخاء وعاد نبضها طبيعيا و خفّ الزحام في رأسها وانفرج الهواء من حولها و اتضحت الرؤية وعبق في المكان رائحة السكينة وتنشق الجميع هدوءا سرى في دمهم ...ودخل الولدان في نوم هانئ .
مر وقت طويل جداً ولم تسمع سهام صمتها ولم تشعر بهذه السلامة في رأسها ....دخلت سهام في غفوتها بسلاسة بلا صخب غنائها ولا حلم نجوميتها ... تنفست الصعداء ونامت .
مي عطاف