في ديوان "كحل وحبر": إيزابيل كسرواني بحبر الدّم تكتب!!
أُكحِّلُ عينّيّ بحبر شاعرةٍ غمست ريشتها محبرة القلب؛ وبات الورق مع نهداتها يرتوي من نجيع حبِّها للوطن والإنسان معًا، على كثير من دماثة الخُلق ورهافة الحسِّ،اللّذين جعلاني توّاقًا لسماعها تُلقي شِعرها، أكثر من نهمي بقراءته: حفظًا لأَلق الفكرة وما تتمتّع به الشّاعرة إِيزابيل كسرواني زغيب من رقة الحضور ورِفعَته.
قرأتُها، فألفيتُ شِعرها أثوابًا بحرير الكلمات قد حيكَت وبإبر الملام قد حُبِكَت لأفراح ٍ وأحزانٍ بحسب ما يقتضيه المقام، بمواقف رسخت لدى الشّاعرة، فأرسلتها للمتلقّي بعباءآت من قصائدٍ أقامتها في ذهنه بوطنيّاتٍ، وفي وجدانه عمّرت المخيِّلة بغزلٍ وقصيدٍ، حيث وشّحت مجمل أبياتها بجمالاتٍ فاضت من روح صاحبتها، روتها، فأروت حسّه وأغوت نفسه، بلغةٍ قريبةٍ من القلب، تحاكي الفكر بأدنى المعاني إلى صيد المقصود!
لقد أهدَت إيزابيل زغيب كسرواني ديوانها لقارئٍ نهم ٍ يفهم قلبها وفكرها بحنينٍ وحنانٍ وعمق وَجدٍ، فغمست ريشتها حُقّ عرق المُجاهدة، فأتى الدِّيوان نضِر المُحيّا وقد أهدته لوالدتها وفاءً لسهر وتعب أُمٍّ ترافقها روحُها، فتسكن قصيدتها وتهيم معها في فضاء بركة من نعيم رضاها، متحسِّسةً دفء حضورها والمواكبة في كلّ ما خطّت يراعها!
فالشّاعرة ترى إلى الدّنيا مرسحًا، يجوبه الإنسان سعيًا خلف تحقيقه الأماني والأحلام: "في ناسْ تركو بهـَ الدّني بصمه/ وفي ناس عاشو العُمرْ بالعَتمِهْ" (ص19). آهٍ كم يوجعها الإبن العقوق الّدي ترك أُمّه تجترّ تشرين العمر، خارج دارها الَّتي ربّته فيها صغيرًا، ولم يبادلها كفاح السّنين بما يمليه عليه طيب الوفاء (ص37-39). وكم مُلفِتٌ حضور الأب في حياة الإبنة الشّاعرة حتّى من بعد غياب، حيث غدا أكثر رسوخًا في شخصيتها: "وقاوِمْ قسا الإيّام ما بالي/ ماطيف بيّي واقِف قبالي/عَ البال يا ها البَيّ ها الإحساسْ/ بفتِّش عَ وجَّكْ بين كِلّ النَّاسْ/ عايشْ مَعِي بالقلبْ بالوسواسْ/ بيّي أنا شو اشتَقتْ لوجودَكْ/ وباقي معِي تا كمِّلْ وعودَكْ!" (ص40-41).
وللأخ في شعر الشّاعرة نصيب، فهو جناحها، به تطير وتحقق بهجة الأيّام...فإن استوقفك عزيزي القارئ – كما استوقفني- حضور الأب والأم والأخ في الديوان،فهذا يشير بالبَنان إلى متانة التّربية العائليّة الّتي تلقّفتها إيزابيل زغيب كسرواني وعاشت تفاصيلها، فطفر شعرها بمخزونها القيَميّ قصائد ولا أَنقى ...
كما وأنّنا نسوح مع الشّاعرة بمشاوير في قصائدٍ لا تقلّ رونقًا عن سواها إلى بوتقةٍ من ضياعنا المنثورة على خدود الجبال، في فصلٍ من الدّيوان، حيث نقطف معها كل الحلاوات عن أغصان طبيعتنا الغنّاء، إضافةً لذكرها طيب عاداتنا والتّقاليد، عدا غمار الحنين إلى كلّ ما كان وولّى... نزولاً بأرض سِيَر عظماء فنِّنا، حيث تدعونا للوقوف معها وقفاتٍ لا أجلّ ولا أبهى، نستعيد معها أمجادًا: من وديع وصباح وسلوى، وأُخرى لا تزال تعزّينا ونأمَل، مع فيروز الباقية ما دام الزّمان!!
وصولًا بنا إلى الغزل، وقد أفردت له الشّاعرة بابًا، نقرعه فتفيض الحلاوات على عتباته من أجاجين صافيةٍ، عصرتها من قلب امرأةٍ صافي النبض نقي الوله، فندفأُ من "شال حلم" تحوكه إ]زابيلُ على نول قلبها بخيوط تراتيل، راقيةٌ راقية، تدفعها لغَمر الدّفا في شالٍ يستمدّ الحلى من حلاوة حبِّها! كما نتهجىّ حبَّها العفيف في قصيدة " رسِمني" فنجدها ترسم لحبها أمكنةً يزيِّنها الخفر ويكلّلها بُعد النّظر... وكم يبقى ساطعًا قمرُك الّذي لم يعد عاقلاً وصار يتشيطن في"وحدو القمر": "وما عَاد عاقِلْ ها القمرْ/ ولا عَاد بدُّو من الدِّني إلاّ السَّهرْ!". (ص129-130). آهِ كذلك، لغيرة حبيبٍ من فستانها الّذي ترتديه: "الزَّهرْ عَ فستاني الحلو أَلوانْ/ يوعِّي بقلبي النّار/ مِدري الحلو حيرانْ/ مدري الحلو غيرانْ!/ تَ غِيرتو يشفي/ قلِّي شو مذوقْ/ شاغِلْ الفستانْ/ مقصّرو نِتفِهْ!" (ص131-132). واللّيلُ، غدا للشّاعرة مرسحًا يُضيء عتمتَه قنديلُ حبيبات بطلاتٍ هُنَّ...(ص132-134). وخلُصَتْ إلى القول بأنه لا يُنقّي القلب من جراح الحبّ سوى حضور الحبيب في "قال لي طبيبي" (ص135-136).
وفي الفصل الأخير من الديوان أجد نفسي إزاء مجموعةٍ من القصائد المعدّة لأن تُلحَّن أغانٍ، من مثل "رح إهجرها"، "زاد الحنين"، "شِفتَك بالحلم"، "بِشكي لَمين"، "دقَّيتْ"... ولكن، زهرة قصائد هذا الباب تبقى بنظري:"معزومِه عَ عِرسَك بُكرا". ففي هذه القصيدة تهجّيتُ المرأة الحبيبة بمعظم عوارض الحبّ عندها، وكان أبهاها: حفظ عظمة الكبرياء والأنفة في شخصها على الوفير من الصّدق وإن ضرّ بمصالحها!
إيزابيل كسرواني، امرأةٌ، دلفت إلى دُنيا الشِّعر فأغنته وأغوت بحضورها عشّاقه. إِنّي وقبل أن أطوي سِفر حبركِ، كحلَ عينيك الّذي سيحفظكِ لنا ولمكتبتنا اللّبنانيّة: سيِّدةً من بين أعلام اللّبنانيّة المحكيّة الّذين نعتزّ بهم.أوصيكِ آملاً، أن تترعينا من يراعك دومًا،خمرة شعرٍ يلوِّن عينيك ببسمةٍ دهريةٍ،وأنتِ تُفسحين لشيطان الشِّعر ميدانًا يلهو فيه: فترقص القوافي معك بفرح ٍ هادفٍ تُطرَب له النّفوس وهي تتعلَّم منكِ أن تسعَد!!
سليمان يوسف إبراهيم
عنّايا، في3/12/2016